ارتسمت صور السودان دوما بخليط مذهل من المعرفة والجهل، فالتحيزات والتشوهات، التي ارتبطت علي نحو وثيق بالجهل بالمعلومات والحقائق الأساسية عن البلاد بشكل عام، وعن تعقيدات المسارات السياسية فيها بوجه خاص. وقد أدت هذه التحيزات والتشوهات إلي عدم إدراك طبيعة ثقافة الحكم في الخرطوم، وقيمه الأساسية وأولوياته.
كما مارس الحكم في السودان قدرا عاليا من عمليات الإنتباه الإنتقائي، في علاقاته الخارجية، بالتركيز علي الأفعال والتصرفات، التي ينشط فيها "المتآمرون علي مقدرات البلاد،" والإباحة المطلقة في الرد علي هذا العدو الحقيقي، أو المزعوم، بالتعليقات السلبية المرتبطة به، واستدعاء كل الصور الماضية والحاضرة لأخطاء الآخر القادمة من خارج الحدود، وهي بلا شك كثيرة.
وتظهر كل التجارب الماضية ميل السياسيين السودانيين، في التصرف مع كل أزمة طارئة أو مقيمة، باستدعاء نظرية المؤامرة، وإجراد كل الصفات والحقائق والحكايات السلبية عن الأشخاص، الذين يعتبرون كأعداء، مع نزوع للمزايدة، والتهريج الخطابي والبلاغي لتضخيم هذه السمات، ورفدها ببينات ووقائع داخلية وخارجية، وهي أيضا لا يأتيها الحصر.
وبالمقابل، لم يجامل العالم السودان ويعترف له ببعض الفضل، الذي يفعله داخليا وخارجيا، فبادله بما يعرف بخداع القمة السوداء لصورة المرآة. حيث يركز كل طرف علي صورة قيادة الطرف الآخر بوصفها "شريرة" و"قمعية"، بينما الأفراد، أو الأعضاء الآخرون في الجماعة الأخري المعارضة خاضعون لسيطرة واستغلال قياداتهم. وما التعاطف غير المشروط مع جماعات التمرد في دارفور إلا بينة وبرهان.
وهذه الحساسية في نظرة السودان للآخر، وتعامل الآخر مع ما يجري في السودان، وتغاضيه عن كل ما ينجز في مضمار السلام أو حقل التنمية، خلق حالة من الشك، الذي أقعد العمل الدبلوماسي من أن ينهض بتمام واجباته. فتعايش السودان مع العالم بصور متعارضة ومتناقضة، بل ومعادية، حجمت الفهم الصحيح لما يجري داخله من محاولات إصحاح ما أشكل علي ماضيه.
لهذا، لم تطمئن الخرطوم للعالم، ولم يأنس العالم في نفسه القدرة علي تغيير مواقفه، وانطباعيته الأولي عن نظام حكم، يصفه تارة بالقوة والبطش، وينعته تارة أخري بالعجز، وعدم القدرة، والأيلولة للإنهيار. ويتم تصويره ووصفه، في غالب الأحيان، بأن قياداته تتمتع بدرجة عالية من التنظيم والذكاء، والقدرة علي تدبير المؤامرات، والاحتفاظ بأهداف سرية غير واضحة، تجاه أعدائه وأصدقائه.
وقد قاد هذا التحيز، في تقييم مصداقية الطرفين لتعاملاتهما، إلي اعتماد العالم علي مصدر المعلومة، الذي لا يرتبط بالخرطوم، واستخدم المعلومات الأكثر اتفاقاً مع رأيه، بوصفها أكثر مصداقية من مصادر المعلومات، التي تقدم رؤية الحكومة السودانية، أو أية رؤية أخري مغايرة، حتي وإن جاءت من خبراء غربيين يدركون الحقيقة بمنهج وعلمية.
ويفسر هذا التحيز، في تقييم مصادر المعلومات، نشوء الأزمة الحاضرة بين السودان والمحكمة الجنائية الدولية، التي أغفل مدعيها العام كل معالجة تنشط فيها الخرطوم، وركن إلي ما عيّن من مصادر معلومات، تعينه علي خلق صورة المجرم، الذي تجب مقاضاته ومحاكمته. حيث عمد، كما تشهد بذلك صحيفة الإتهام، إلي تجاهل المعلومات والمصادر غير المتفقة مع توجهاته، وثبت كل التقارير والروايات، التي تضفي سمات سلبية علي الحكومة السودانية، ومصداقية أكبر لما قرره سلفا من حكم عليها.
ورغم أن الدبلوماسية السودانية تبذل هذه الأيام جهداً كبيراً من أجل السيطرة علي تداعيات الإدعاءات، التي وجهها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو، لرمز السيادة الوطنية، وزعيم البلاد الرئيس عمر حسن أحمد البشير. فقد تكاسل هذا الجهد كثيرا فيما مضي من أيام، وتغافل عن ما يمكن أن يحقق معالجة استباقية لهذا الحرج الدبلوماسي الكبير.
لقد كان بالإمكان، حسب رؤية كثير من القانونيين، الذين تطوعوا بنصائحهم القانونية، وأبدوا رغبتهم، وأكدوا قدرتهم، علي قتل هذه الإتهامات في مهدها، وبلا خسائر تذكر. وقد أبلغنا ما كنا نعلمه، من منطلق المسؤولية الوطنية، التي تضع في الإعتبار عدم صرف الأنظار عن الحل العادل لأزمة دارفور نصب أعينها، أبلغنا رأي أهل الخبرة لبعض أطراف الحكم، ولمن عنتهم الإتهامات وقتها، دون أن يكترث للأمر أحد.
ورغم أن الوقت لا يحتمل المحاسبة الآن، إلا الضرورة المتعلقة بأزمة دارفور، واستحقاقات إتفاقيات السلام المختلفة، تسمح لنا بإمكانية تقييم وإدراك خطورة ما يمكن أن تتطور إليه الأمور، علي النحو المناقض لأهداف السلام. ومن الطبيعي والمنطقي أن نطالب الآن بالتركيز الأقصي علي مسارين إثنين؛ هما المضي قدما في تحقيق السلام في دارفور، والتحلي بأقصي درجات المرونة في التعاطي الإيجابي مع الأزمة، وإستيفاء الجوانب القانونية للقضية الحاضرة، ومن ثم الإعتدال في تجريب البدائل الأخري.
ونرجو التنبيه إلي أن عرض الصور المناقضة للسلوك المتزن، في هذه الفاصلة من تاريخ السودان، سيعقد الأمور أكثر مما يعين علي حلها. فلا المظاهرات ستجلب خيرا، ولا الخطب والتعبيرات المنفلتة ستبطل حكما، أو تجلب نفعا، أو تفض مؤامرة. فمثل هذا السلوك العاطفي لا يقدم عادة العقل، ويتسم بمحدودية الأفق، وضعف القدرة علي التخطيط، بل ومحدودية القوة وقدرتها علي المواجهة الحصيفة للأزمات.
ولا بد من تقديم تنازلات داخلية حقيقية، ليس لأوكامبو أو المحكمة الجنائية الدولية، ولكن لمصلحة السلام، وقطعا لأهلنا في دارفور، وكل فرد تأثر بالحرب، أو أخطاء السياسات التي صاحبتها، في الجنوب والشرق والغرب، وكل أنحاء البلاد، التي إعتقلتها حالة الإحتقان الداخلي والمقاطعة الخارجية. وبذلك وحده يمكن قطع الطريق علي المؤامرات الخارجية، التي لا يمكن أن تطل علينا إلا بذرائع نوفرها بأخطائنا، التي تقع في غالبها بحسن نية، ينقصها حسن التقدير.
فالطابع الحركي لهذه القضية، التي نحن بصددها، يتطلب حكمة جديدة، ونهجاً مغايراً، يبتدع المعالجات لما هو قائم من مشكلات، ويقتحم المستقبل بأفكار وخطط تنموية تزيل كل الغبن، الذي يتسلح به الأخوة المتمردون علي مواضعات الترتيبات الدستورية والقانونية للحكم في البلاد. وإن حدث هذا، فلا نستبعد عودة الأمور إلي نصابها في الداخل، وإمكانية تحول عدو خارجي حالي إلي حليف مستقبلي للسودان، وما يرتبط بذلك من تغير في صورة العلاقات الداخلية والخارجية